"عقدة الرياضيات"
لا يوجد ما هو أقسى من تكرار نفس الموقف بأنماط مختلفة وفي كل مرة تكون أذيته النفسية قاسية جدا.
كل مرة يزداد الضرر ويزداد الألم ويتفاقم الوضع أكثر، وهي لا تعرف شيء غير أن تصمت وتحرق في نفسها، وتقرب أن تغير من نفسها حتى لا يتكرر هذا الموقف ولكنه يتكرر بالرغم من تغيرها.
ولكن هيهات، هي لم تعرف أو لم ترد أن تعترف أنها ليست المشكلة.
تجلس أميرة في هدوء أمام التلفزيون تستمع لإحدى البرامج وخصوصا برنامج "هي وبس" لرضوى الشربيني ملكة قلب البنات وعدوة الشباب الأولى هي وكلمتها الشهيرة "بلوك".
وكانت تقرأ في فقرتها الأولى رسائل متابعيها وإحدى تلك الرسائل لفتت نظر بطلتنا وكانت حكاية بنت عن التحرش الذي تعرضت له وتطلب من رضوى عدم الإفصاح عن اسمها، فردت والدتها ذات الأربعين من عمرها التي تقوم بأفضل عمل في هذا العالم هو تربية بناتها الأربعة على التحلي بالأخلاق، فهي سيدة ريفية بشرتها جميلة ومشرقة بالرغم من سنها ولكن من يراها يحسبها أختهن الكبرى فقالت بعفوية لما تريد أن تخفي اسمها هو المخطئ ليس هي .....
فضحكت ابنتها ذات العشرين عاما طالبة الحقوق الأولى على فرقتها كل عام أضعف جسما بالنسبة لبناتها وليست بالجميلة بما يكفي يمكن القول إنها أقل جمالا في أخواتها، وقالت لها لما تتعجبين أمي؟ أو لو كنت مكانها كنتي تسمحي لي أن أقول اسمي دون خوف؟!
تغير لون وجهها وقالت استغفر الله....
هذا الطبيعي أي أم ستقول ذلك لا تريد أن تفضح بابنتها بنفسها وفي تلك اللحظة تذكرت البنت أول تحرش حدث لها، نعم لا تتعجبوا ما استمعتم له صحيح.
كانت في الصف الثاني الإعدادي وكانت ذاهبة لدرس الرياضيات وهذا أحد الأسباب كرهها لتلك المادة، فتاة عمرها ثلاثة عشر عاما وتتعرض لموقف كهذا صعب جدا عليها.
كانت في وقت الظهيرة موعد قبيح لوقت درس ولكن ماذا تفعل من سوء حظها أن هذا اليوم تكون صديقتها مريضة ولم تذهب معها، وهي تمشي بخطى سريعة وفجأة يأتي شاب من خلفها ويضع يده عليها في إحدى مناطق البنت المحظورة، وإذا بها تقف مكانها تبكي بحرقة شديدة، طفلة لا تعرف ماذا حدث؟ ولكنها تعرف فقط أن ما حدث هذا أسوأ شيء حدث، وأنها لن تنساه طيلة حياتها.
وهي في ذكرياتها هائمة لا تسمع أي أحد حولها تذكرت المرة الثانية التي تعرضت لها لهذا الموقف القذر أصعب موقف يمكن أن يحدث لأي بنت فأي عمر.
مادة الرياضيات اللعينة التي تكرهها بكل كيانها وبكل ما أوتيت من قوة، وتتذكر إحدى أبشع لحظاتها وهي بنت في الصف الأول الثانوي بنت مازالت في الخامسة عشر من عمرها وهي جالسة مع مدرسها في إحدى الفصول الدراسية على أساس أنه مدرس محترم وقور فذهبت لتسأله بعد الحصة قال لها تعالي في غرفتي، فذهبت وسألته في غرفته كما أراد.
وإذا به يجلسها بحواره مستعملا أنقى لفظ في الوجود ونادى لها ابنتي، وجلست وكانت أسوأ وأبشع جلسة جلستها في حياتها أفقدتها الثقة في أي معلم خصوصا الرياضيات، وإذا به يضع يده على جسمها ويديها فقامت مفزوعة وتنظر له بحقارة وخرجت مسرعة قبل أن تأخذ كشكولها حتى......
وفجأة وجدت والدها ينادي لها ابنتي، أميرة، أميرة ...
فاقت من ذكرياتها المؤلمة وبابتسامة جميلة ولكنها حزينة فهو حبيبها الوحيد وأملها الوحيد في هذا العالم، الرجل الوحيد الذي تحترمه تقريبا، معلم اللغة الإنجليزية في إحدى مدارس القرية وقالت له بخفوت نعم بابا..
رد بضحكة مثيرة من أخذ عقل أميرتي..
أميرة: أنت يا عسل..
الأب: ممكن تعلمي الواجب اللي فالكشاكيل تلك، وأشار بيده على إحدى المقاعد
أميرة: من عيني الاثنين
وبدأت بتعليم الواجب ولكنها تاهت في عالمها وكيف أنها قامت بأقسى أنواع الحميات الغذائية حتى تنقص وزنها وحتى لا تظهر منحنيات جسدها بشكل واضح فعلا يطمع فيها أحد...
تتذكر كيف اقترحت على والديها وهي فالصف الثالث الثانوي أن ترتدي الخمار حتى تغطي جسدها ولكنهم رفضوا، فاضطرت أن تنحف بشكل واضح جدا، فهي كانت مولعة بالحلوى والطعام ولكنها تخلت عن كل هذا حتى تفقد وزنها؛ فلم يكن أمامها غير هذه الطريقة.
هي اعتقدت من ثقافتها أن سبب هذه التصرفات الغريبة والألفاظ التي تسمعها من الشباب حولها وهم يتحرشون بالبنات سواء لفظا أو لمسا أو حتى نظرة السبب شكل البنت أو ملابسها فهي بكل سذاجة قررت تغيير ملابسها وجسمها حتى لا تتعرض لموقف كهذا مرة أخرى.
ولكن بالرغم من كل تلك المحاولات إلا أنها رأت بعينها شاب يتحرش بمنتقبة، فضحكت وقالت ماذا يرى هذا لا أراه؟!
من يقم بهذا الفعل القذر ليس إلا مريض نفسي وتسبب في عقدة جسيمة للبنات اللواتي يتعرضن لتلك المواقف ويسبب لهن أذى نفسي كبير.
فأميرة وصلت لمرحلة أنها أهملت في نفسها وفي شكلها حتى لا ينظر لها رجل أو بمعنى أصح حتى لا يتحرش بها رجل، حتى لا تتأذى مرة أخرى، حتى لا تفقد الثقة في شخص آخر.
يكفي إلى الآن أنها فقدت الثقة في مادة الرياضيات وفي معلمها وأي معلم تقريبا، وفقدت الثقة في كلمة ابنتي من أي شخص غير والدها..
وبعد كل تلك الصراعات التي تجول بخاطرها، وكل تلك الذكريات التي استباحت هدوءها النفسي، قررت أن تصلي لله ركعتين حتى تتخلص من كل تلك الذكريات البشعة التي ذكرتها بضعفها وعجزها عن مواجهة الحقيقة وتجاهلها واستكمال حياتها.
قامت أميرة توضأت وصلت ودعت لله أن يلهمها الصواب أن يرشدها للطريق الصحيح أن يهبها الشخص الذي يجعلها تتخطى كل تلك الذكريات بقربه.
أن تجد من تتجرأ وأن تحكي له كل ما حدث منها دون خجل وجه لوجه والأهم أن يتقبلها كما هي..
وبعد انتهاء صلاتها وبوحها لله عز وجل بكل ما يختلج فؤادها خرجت كنور الشمس الذي لا يستطيع أحد حجبه نهائيا وقتما يريد الظهور.
الأب: أميرتي، أريد أن أحدثك بموضوع ليس بجديد ولكني أريد الاطمئنان عليكِ قبل أن يأخذ الله أمانته.
أميرة بهدوء ملحوظ كأنها تعلم بما سيقول: يا حبيب قلبي لن أطمئن بجوار غيرك وأساسا لن أطمئن في أي مكان لست فيه أنت.
الأم: صغيرتي تعلمين كم نحن متعلقين بكِ، ولكن هذه سُنة الحياة، واستكمالا لنصف دينك.
أميرة بنفاذ صبر كجندي فقد كل أسلحته في معركة لن يخرج منها إلا مقتول فهي لن تصبح قاتلة لأمل والديها: حسنا كما تريدان.
وكأنهم لم يصدقوا ما تفوهت به الآن، وطلبوا منها إعادة ما تفوهت به، فأكدت لهما ما قالته.
ولم يمهلاها وقتا للعودة بقرارها وفي اليوم التالي كانوا يخبروها بالشاب الذي يريد التقدم لها كأنه كان ينتظر موافقتها حتى يأتي عجيب هذا العالم لو يعلم أحد ما سيحدث بعد دقيقة واحدة لغير حياته بالكامل.
ومع إصرار والداها ووعدها لهما وافقت بعد أسبوع على قدومه.
هي تعلم حق المعرفة أنها ليست جميلة بما فيه الكفاية حتى تضع شروطها ولكن هي لديها قناعة كاملة بما تمتلك فهي تعلم أن ما لديها لا تمتلكه كثيرات في هذا المجتمع والثقافة التي أصبحت غربية بطريقة مبالغ فيها.
كأن الأجانب نجحوا فيما فعلوه قديما في هذا الزمن جعلوا شبابنا وبناتنا مسخ منهم.
الآن الشاب أصبح يرضى بأن يغضب الله تحت مسمى التحضر، حتى الفتيات أصبحن يفعلن أشياء لا ترضي أي عقل تحت مسمى الموضة.
فهي تعلم أنها بكرٌ قلبا وقالبا لم تمس ولو بمجرد إعجاب خفي لشاب لن تراه حتى إلا مرة واحدة.
وترى أن ميزتها التي ميزها الله بها بجانب أخلاقها وأصلها يكفوا أن تختار من تريده.
وجاء موعد المقابلة بسرعة عجيبة لدرجة أن أميرة ظنت أن الأيام تتغير لصالحه ليس لصالحها ولكنها لأول مرة لا تهاب المقابلة كسابقتها.
نادى الأب على أميرة ودخلت وبيدها المشروبات، بادر الشاب بالوقوف وأخذها منها.
لم تعلق ولم يلفت نظرها حقيقةً، ثم جلست في المقعد الذي حدده له والدها.
وبعد وقت قصير أصبحت تميز صوت الشاب الذي جاء ليتزوجها، من حديثه مع والدها فهي كانت ترى ثلاث رجال ولكنها لم تستطع أن تعرف أي منهم هو الشاب الذي جاء ليراها.
ثم فجأة وقف والدها وخرج ومعه رجلان، توترت قليلا فهي كانت شاردة في أين سمعت صوته من قبل؟!
ولكن بعد لحظات قليلة سمعت صوته ثانيا يخبرها أن تهدأ ولا تتوتر فشفتاها بدأت بالاهتزاز مثلما كانت صغيرة.
فرفعت أميرة عينيها بسرعة كمن لدغتها عقربة، ونظرت له للحظة ثم أخفضت نظرها سريعا.
ابتسم ابتسامة جانبية شعرت هي بها فحديثه، ولكنها أرادت أن تنهي تلك المهزلة وقررت أن أول سؤال سيسأله لها ستخبره بكل شيء وستنتظر إنهائه لكل هذا وذهابه للأبد.
ولكنها لم تتذكر أين رأته من قبل.
بدأ يتحدث عن نفسه وعن عمله وكل شيء تقريبا ولكن الغريب أنه لم يسألها شيئا على الإطلاق أيعقل أنه لا يهمه أن أنه يعرف ما يريده؟!
وبعدما انتهى من حديثه أخبرها أنه ينتظر أسئلتها، استغلت الفرصة وأخبرته على الفور دون تفكير وهذا خطأ أن تخبر شخصا لا تعرفه ولا تعرف رد فعله سر كهذا خطير حتى عائلتها لا تعرفه.
ولكنها أخبرته كل شيء كل ما تعرضت له منذ كانت طفلة حتى الآن.
ولكن الغريب أنه كان يستمع لها بانتباه شديد كأن تلك الكلمات هي السبب في تحديد مصيره.
وبعدما انتهت سألها سؤال منفصل تماما كأنه لم يستمع لأي كلمة مما قالتها، وبكل هدوء أو يمكن القول برود سألها هل تقبلين الزواج مني؟
وكانت تلك اللحظة التي رفعت فيها عينيها للمرة الثانية ولكن لم تخفضهما سريعا فهي كانت تريد أن تفهم أي أبله يضع نفسه في هذا الموقف، كيف يقبل بفتاة لا تعرف حتى إذا كانت مستعدة لتقبله أساسا بعد كل ما مرت به.
وفجأة انتبهت لابتسامته التي تتسع شيئا فشيئا، فخجلت كثيرا وأخفضت رأسها سريعا.
وتحدث هو بثقة كأنه سمع جوابها، جيد أنكِ وافقتِ فأنا انتظرت كثيرا، إن كان لدي علم مسبقا أن هذا هو السبب كنت ألغيت مادة الرياضيات نهائيا من هذا العالم وتزوجتك.
ولكنها حافظت على ثباتها الظاهري على عكس ما بداخلها، وسألته هل انتهى من كلامه؟
جاوبها بابتسامة كبيرة حاليا انتهيت يمكنكِ الهروب الآن ولكن لن تستطيعي الهروب المرة القادمة.
خرجت مسرعة وحاولت أن تتذكر أين رأته ولكن لديها عادة كانت تظنها جيدة أنها لا تنظر لشاب لدرجة أن تحفظ شكله.
ولكنه يتكلم بثقة ووضوح معها كمن يعرفها جيدا.
هدأت وتمالكت أعصابها وقررت إنهاء كل تلك التساؤلات وسألت والدتها هل هذا الشاب نعرفه مسبقا؟
والدتها باستغراب لا أميرتي لم نعرفه مسبقا ولكنه يصر أن يتقدم لكِ منذ ثلاث سنوات ووالدك سأم من إصراره المبالغ فيه، وعندما وافقتِ على المبدأ كان يتمنى أن يتصل مجنونك هذا، وبالفعل اتصل وجاء اليوم، كأنه كان يعلم بموافقتك.
بدأت تشعر بشيء مريب فهي متأكدة أنها رأته من قبل، لا تنكر أنها شعرت بالراحة معه، ولكن هناك غموض حوله تحتاج أن تكشفه.
دخل والدها في تلك اللحظة وسألها ما رأيها بأستاذ الرياضيات هذا؟
كمن صفعها الآن على وجهها بشدة، كم هي حظها بشع!
تنفست بهدوء وقالت له لا أعرف أبي سأصلي أولا.
الأب: حسنا أميرتي استخيري وسأستخير أنا ووالدتك أيضا.
دخلت أميرة غرفتها ولا يشغل بالها غير أين رأته من قبل؟
صلت ونامت وعندما استيقظت كانت نشيطة سعيدة، ولكن يقلقها أنه أستاذ رياضيات أستظل عقدتها للأبد؟!.
خرجت للإفطار وقبلت والدتها ووالدها كعادتها لاحظ والدها تبدل حالها المفرح له.
وعرف أنها وافقت ولكنها ابنته ولن نعترف وعزم على إنهاء هذا الأمر بطريقته.
وبعد مرور أسبوعين لم يسألها أحد عن رأيها في الزواج، وكأنها كانت تحلم أحد أحلامها المعتادة عليها.
وفي أحد الأيام أخبرتها والداتها بأن ترتدي فستان جميل للغاية كان بسيط كلاسيكي يناسبها لدرجة كأنه صُمم لها خصيصا.
وعندنا حاولت أن تعترض أخبرتها أن هناك ضيوف قادمين لهم اليوم، ويجب أن ترتدي هذا الفستان خصيصا.
استسلمت كعادتها وارتدته وعندما دخلت غرفة الصالون وجدته ثانيا ابتسمت لا إراديا له وسرعان ما تماسكت ولكن الغضب والاشمئزاز ظهر على وجهها جليا عندما سمعت من نادى عليه بأستاذ، وكأن تلك العقدة ستلازمها للأبد.
ووجدته يقترب منها وبيديه باقة ورد جميلة للغاية ويعطيه لها، ولكنها لم تأخذها منه وظلت تنظر له باستغراب فهي لم تتذكر بعد أين رأته.
اقترب منها قليلا ووقف بجوارها وقال لها أنا تحدثت معك على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك منذ ثلاث سنوات ولن أنسى ردودك عليّ أبدا فأنا من يومها لم أستطع أن أتحدث مع غيرك أبدا لا أعرف ما السبب الذي جعلك تتوقفي عن الحديث معي، أعلم أن حديثنا كانت مجرد مناقشات لم تتعدى حتى معرفة اسم كل منا للآخر، ولكن المقابلة السابقة جعلتني أعرف ما هذا السبب الذي جعلكِ تتوقفين عن تلك المناقشات.
ألن تأخذي الباقة الآن مني؟
نظرت له أميرة باستغراب فكل من حولهم من مدعوين لم تدعهم هي فهم فعلوا الشيء الصحيح هي لن تصل لتلك المرحلة بغير هذه الطريقة، جميعهم كانوا ينظرون له ويضحكون على شكله وهو يحمل الباقة.
فأخذتها منه وابتسمت لأنه قرأ أفكارها وجاوبها على كل أسئلتها.
ولكن يؤرقها الآن شيء واحد هل ستظل الرياضيات عقدة لها؟
"ولاء مصطفى"