الوهم

 "الوهم"

الوهم

المقدمة

ماذا يحدث إذا أصبح الوهم أسلوب حياة؟!


أريد منكم بعض الإذن بتسليم لي عقلكم الباطن قليلًا.


كل شخص لديه أحلام لا يستطيع حتى النطق بها لنفسه، لا تنكرون ذلك..


أسمعك جيدًا يا من تريد الاعتراض على حديثي السابق، تتعامل دون أهمية لأي شخص أو لأي أحد، أنت مخطئ فأنا قريبة منك لدرجة أن أجزم أنك تدعي عدم اهتمامك، أنت تتألم وتفرح، لا أنكر أنه من الممكن أن تكون أقل شعورًا ممن حولك بعض الشيء، ولكنك لست صخرة صماء ولا حتى رجل ثلج.


لدي طلب بسيط كل شخص يغمض عينيه بشدة ويتذكر أمنيته الوحيدة الأزلية، التي لن تتغير مهما تقدم فالعمر أو حتى تغيرت شخصيته.


نعم الآن وجدتها، ها هي بعيدة جدًا، ولكنك تستطيع الوصول لها، ثق بي ليست وهم.


والآن قم باستدراجها ببطء حتى تصل لك وتشعر بها، وتتلمس نطقها على شفتيك، واستجمع كل قوتك حتى تكتبها على ورقة.


الآن احتفظ بها لديك...


"ولاء مصطفى"


"الوهم"


القصة:


يقول دكتور مصطفى محمود أن الأوهام حولك في كل مكان، والحل الوحيد أمامك هو أن تكون سيد هذه الأوهام، وأن تصنعها بيدك.


هذا آخر ما نطق به أستاذي وصديقي الوحيد رحيم وهو يعتلي منصة تسليم الجوائز؛ لجهوده العظيمة في تخاطر الأرواح.


 وجْد: ألم تسأمي بعد من متابعة رحيم؟!


وجْد: لن أسأم أبدًا، رحيم صديقي وسيظل هكذا.


: ألم تكف من أوهامك المجنونة بعد؟!


وجْد: لا لن أكف، ابتعد عني لا أريدك في حياتي، تخليت عن صوتك منذ زمن لا أريد تحكمك في حياتي بعد الآن.


: سأخوض معك هذا الجدال مجددا لعل وعسى تقتنعين أنه لم يعد موجودًا، ولن يكون موجودًا أبدًا.


: بأي حق تلقبينه بصديقك؟


وجْد: لم أجد منه غير الصديق، دائما رؤف بي، لم أجد شخص يفهمني مثله، كل شيء بحياتي إلى الآن هو بفضله، شخصيتي التي هي محط إعجاب الجميع الآن بسببه. ظل بجانبي طوال فترة ضعفي بل جعلني أقوى، لم يرفض لي طلب لليوم. رحيم هو أخ لم تلده أمي، أعطني سببًا واحدًا حتى أكرهه.


: أولًا لم أقل اكرهيه، ولن أجرؤ أساسًا فأنا أعرف أنه قدم لك ما لم يقدمه أحد، وما لن يقدمه أحد أيضًا.


وجْد: سنعود لنفس النقطة ماذا تريدين إذًا؟!


: كل مرة نتناقش تتعاملين معي كأنها المرة الأولى التي أقول لك بها هذا الكلام.


وجْد: حسنًا هل ستكملين أم أذهب لعملي؟


: حسنًا، كل ما أطلبه منك ألا توقفي حياتك عليه، هو استمر بحياته تزوج وأصبح لديه فتاة جميلة وأصبح أشهر وأنجح دكتور في الفلسفة، وآخر إنجازاته تلك الجائزة التي كنتِ تشاهدينه وهو يتسلمها.


وجْد: حسنًا، سمعت طلبك سأضعه في أولوياتي حتى أفكر به.


: هذا من كرمك!


: يجب ألا تنسي أن صداقتك له خطأ من الأساس، فلا صداقة بين شاب وفتاة يا دكتورة.


وجْد: أنا لم أخطئ تعلم ذلك جيدًا، رحيم أخ وصديق فقط.


: هل الشيء الصحيح نقوم به فالظلام دون علم أحد!


وجْد: نحن في مجتمع لا يعترف فقط بتلك الصداقة ليس أكثر ولا أقل.


: للحقيقة فالمجتمع فعلًا لا يعترف، والأهم أن الشرع أيضا لا يعترف بذلك.


: سأسألك سؤال لم أساله لك من قبل. إذا تم خطبتك هل ستسمحين له بالحديث مثل رحيم أو على الأقل هل سيكون صندوق أسرارك مثله؟


وجْد: لِمَ لا تقتنع؟ هما شخصان مختلفان هذا أخي وهذا خطيبي، لن يكونا مكان بعضهما أبدًا ولن أسمح بذلك كل منهما له أهميته في حياتي، أما بخصوص عدم تقبل المجتمع هذه الصداقة فأنا أخفيتها تمامًا حتى أحافظ على تلك المبادئ العقيمة.


أما بخصوص الدين والشرع فالله مطلع على الصدور ويعلم بما في نوايانا جيدًا.


أما بخصوص استكمال حياته فهذا من حقه، وما فعلناه بالابتعاد عن بعضنا البعض أفضل قرار أخذناه.


أما تكملة حياتي فأنا فقط لم أجد الشخص المناسب.


: ما هو هذا الشخص؟ أتحداك إذا كنت تعرفين له مواصفات!


وجْد: بالطبع له مواصفات أريد أن أشعر معه بأنني أستحق الحب، أستحق الحياة، لِنَفسي أهمية، أنني كنزه الثمين أن يكون فخور بي وباهتماماتي. والأهم أن أتخلص من خوفي طالما هو على قيد الحياة. 


وفاء: وجد صغيرتي!


وجد: ماما حضرتك هنا من زمان؟!


وفاء: وجد الحالة زادت، يجب الذهاب لدكتور 


وجد: ماما لا تقلقي مجرد أوهام وعندما أعود لواقعي تختفي.


وفاء: حسنًا سأعد الافطار


وبعد خروج وفاء والدة وجد، تناولت وجد مفكرتها وكتبت كل ما حدث معها بحلمها حتى لا تنسى وخبأت مفكرتها كالعادة تحت السرير.


وقبل أن تخبئها كتبت نهايتها، من أنت يا رحيم؟ حتى ملامحك لا أعرفها؟ لم أرك من قبل حتى لا أعرف إذا كنت موجود فعلًا في تلك الحياة أم لا؟


أتمنى أن أجدك إذا كنت موجود.


 وبعد ذلك خرجت وجْد لتناول إفطارها والذهاب للجامعة، فهي دائمًا تتأخر على محاضراتها الصباحية حتى سئم الطلاب من المجيء مبكرا.


وجْد: ماما من فضلك احضري لي دفتري من الداخل، وستجدين بجانبه بعض الأوراق عنوانها فلسفة الجمال احضريه أيضًا حتى انتهي من حمل الإفطار للداخل.


وفاء: كالعادة كل شيء ليس بمكانه في حياتك، حسنا سأجلبه لك.


ثم ذهبت وجْد للجامعة ودخلت قاعة المحاضرات وبدأت بمحاضرتها، وللأمانة هي مبدعة في شرح المحاضرات، خصوصًا الفلسفة فهي تعشقها منذ كان يدرسها لها رحيم بالثانوي العام.


ومنذ ذلك الوقت أصرت أن تكون الفلسفة هي همزة الوصل بينها وبين صديقها وأستاذها الوحيد،  فهو على الرغم من أنه يكبرها بثلاث سنوات إلا أنه بدأ في أن يعطي دروس خصوصية في مادتي علم النفس والفلسفة من السنة الأولى له بالجامعة، ورشحه أحد أولياء الأمور لوالدتها.


ومنذ ذلك الحين انقلب حالها من انطوائية لاجتماعية بشكل ملفت ومحبب لكل من حولها، وبعد أن كانت عصبية سريعة الانفعال أصبحت هادئة لا يحرك ما بداخلها أي موقف.


فهو كان سبب حبها للفلسفة بتلك الدرجة المبالغ بها، حتى اعتبرتها أسلوب حياة وأصبحت تقرأ للدكتور مصطفى محمود وكان هو يحببها بالقراءة عن طريق اقتراح عناوين فرعية من كتابات دكتور مصطفى محمود، حتى تبحث وأقرأ وتصل لما تريده، فهو لا يعترف بدراسة الجامعة كمرجع أساسًا لتلك الحياة.


حتى أنه في إحدى المرات أخبرها أن الدكتور مصطفى محمود كتب عن الصداقة شيء مميز يعبر عنهما بشكل خاص.


وكل ما تتذكره أنه أخبرها عنوان الكتاب هو الأحلام، وأن العنوان الفرعي هو الرجل والرجل.


تتذكر جيدًا أنها تعجبت كثيرًا من العناوين، ولكن كان فضولها أكبر هو أن تعرف ما يقصد ووجدت النص التالي:


الصداقة ثورة على العادة وعلى ديكتاتورية المجتمع والناس، وحلوة، يتطارح فيها نفسان، ولذة الصداقة هي هذا العري النفسي، والمكاشفة، والصراحة.


إن مهر الصداقة هي الإعفاء من التكلف والمجاملة.


إن غاية الصداقة هي النجاة بالحرية من اختناق المجتمع وصفاقة الناس وثقل العادة.


الصداقة في نظري صراع عاشق، العداوة فيها عداوة فاضلة تحفز وتشحذ وتدفع وتستنهض للعمل،  وليست عداوة تهدم وتهزم وتبتلع وتسيطر وتشل القوى، إنها كعداوة المتسابقين، تتحدى وتهيب بكل واحد يبذل أقصى سرعته.


وبعد ذلك قامت بكتابة كل ما أعجبها من هذا الكتاب، أو عن هذا الجزء خصيصًا وأرسلته له، وأعجبه اختياراتها كثيرًا وكأنها لعنة أصابتها منذ قراءتها لهذا الكلام، وهو كأنه سحر أسود ولم تتخل عن صداقته لليوم، فهو صديقها الوحيد وأخوها الذي لم يرزقها به الله، وفي وفي الحقيقة أنه سر سعادتها وثقتها وأمانها.


وفي اليوم التالي، يتكرر نفس الموضوع وحلمها وهذيانها بالحلم كأنها تكلم أحد، وكانت أمها تراقبها يوميًا وتراها وهي تكتب كل ما تحلم به وترى مكانها المفضل منذ صغرها بالاحتفاظ بأشيائها الثمينة، وقررت أنها لن تقرأ أبدًا هذا حتى تسمح لها ابنتها، وتتعجب كيف من ابنتها التي لم تر لها صديقة لليوم ولا حتى زميلة دراسة، فهي بعيدة تمامًا عن كل ما حولها، كل ما تعرفه في هذا العالم والدتها وكتبها ومحاضراتها بالجامعة. كيف وصلت لتلك الحالة؟


وفي النهاية قررت أن تذهب لطبيب نفسي تخبره ما يحدث مع ابنتها، وأخذت معها ذلك الدفتر التي تكون به ابنتها كل شيء.


وبدأ الطبيب يسألها بعض الأسئلة، ولكن الأم كانت متأكدة أن لا وجود أبدًا لذلك الشخص المسمى رحيم بحياتها، وأنها لأول مرة تسمع باسمه، وأنها لم تكن تذهب لأي دروس أساسًا، فهي كانت تعتمد على نفسها ومدرستها فقط.


ولكن لفت نظرها كلامها عن دكتور مصطفى محمود، فأخبرته أنها تحب أن تقرأ له كثيرًا؛ لتطوير ثقافتها اللغوية؛ ولأنها تحب الفلسفة.


فطلب الطبيب النفسي أن يراها ولكن ليس كطبيب بل صديق، وما جعله يصر على ذلك أن اسمه رحيم وأيضًا لديه دكتوراه في تخاطر الأرواح، لا ينكر أنه لم يتسلم جائزة ولا أنه يعرف تلك الفتاة أساسًا ولكن انتابه الفضول في رؤيتها.


وبالفعل ذهب وتعرف بها بالجامعة وعرفها بنفسه وباسمه وبجائزته، وكأنه يخبرها أنه هو هذا بطل أحلامها، ولكن لم تعطه أي انتباه وأخبرته أنها فقط دكتورة وليست رئيسة القسم حتى تستطيع مساعدته وتركته.


ولكن بعد أن ابتعدت عنه بدأت تتذكر أحلامها وأنها رأته بالفعل، ولكن هذا شيء عجيب كيف خرج من عقلها الباطن للواقع؟ أيعقل أن يكون هناك شخص على مقدار أمنياتنا تمامًا؟


وما جعلها تعجبت من نفسها أكثر أن بأحلامها كان صديقها المقرب والوحيد، أما الآن لم تسمح له حتى بفرصة الكلام، أيعقل أن تجده أمامها بعد كل تلك المعاناة معه في أحلامها وتتركه هكذا؟! 


في صباح يوم مشرق على أبطالنا.


وجْد: أخبريني الآن يا أمي ما رأيك بقصتي الجديدة؟!


وفاء: أريد معرفة هل سيتحول صديق الوهم لصديق فالواقع؟!


وجْد: بالتأكيد لن يتحول أبدا فمواصفات رحيمها، فالوهم لن يتوافر فالحقيقة. 


وفاء: لا أتفق في الرأي معكِ، هي لم تعطه حتى فرصة أن تعرف إذا كان مناسب كصديق أم لا، هي لم تعطه أساسًا فرصة لأي شيء نهائي.


وجْد: ببساطة الصداقة بين الشاب والبنت خاطئة شرعًا ومجتمعًا.


وفاء: أنتِ من تقولين ذلك بعد كتابتك لتلك القصة!


وجْد: نعم، فأنا لم أستطع أن أجعله صديقي في الحقيقة، فاخترت الوهم حتى أفرغ به حريتي المسلوبة بحكم الدين والتقاليد.


أتعرفين أمي هذا الكلام ذكرني ببعض كلمات دكتور مصطفى محمود عن الحرية كان يقول: 


إن أخطر ما يهدد حريتنا ليس السجن، ولكن مشنقة داخلنا اسمها القلق.

كتبتها/ ولاء مصطفى 

إقرأ أيضا فيروزة



إرسال تعليق

أحدث أقدم