"حكم بالإعدام"

حكم بالإعدام

حكم بالإعدام


قبل ثلاثة أيام من تنفيذ حكم الإعدام، وجد نفسه مكبلًا بقيود الزمان وقرارات القدر، كانت قضيته معقدة كعقدة متشابكة من الخيوط المظلمة، وتوارت فيها حقائق مدفونة وأحداث ملتبسة، ومع اقتراب الموعد المحتوم، بات يعيش تبايُنًا بين الهمسات الداخلية التي تقول "ربما"، وبين الحقيقة الباعثة على اليأس، لكنه يحمل في صميمه أملًا ضئيلًا، بأن تمر الأيام الثلاثة القادمة كفيلم بطيء يحمل مفاجآت غير متوقعة، في تلك اللحظة الأخيرة، وقبل أن يطوي الستار على حياته، خطرت بباله فكرة أخيرة رسمت على وجهه ابتسامة بسيطة، كانت نافذة لروحه المنكسرة على التعبير، طلب من الحراس أن يستدعوا إليه صحفيًا لكي يروي له حكايته، تلك الحكاية التي عبث الزمان بها وبمُجرياتها.

جاء صحفيُّ يدعى ناصر، يحمل في عيونه الفضول الملتهب وفي يديه قلم الحقيقة، بدأ الرجل بسرد حكايته، حكايةٌ انغمست فيها الآمال والألم، حكايةٌ اننتهت به إلى غرفة الإعدام، تناقل الصحفيُّ ما سمعه بكل اهتمام، وكأنه كاتب يستقبل الحروف النادمة والأحداث الحزينة، وعلى وجهه تناثرت معاني الحكاية كالنجوم في سماء مُشبّعةٍ بالأسرار والخبايا.

بعد مرور ساعة من اللقاء الشاق، غادر الصحفي مكان اللقاء بحمل ثقيل من الكلمات والأفكار، التي رسمت في ذهنه صورة تعبر عن الظلمات التي غرق فيها هذا الرجل، وعن المِحن التي مرّ بها حتى تمت إدانته بالإعدام، تجلّى في عيني الصحفي الاهتمام والتأثُّر، مستسلماً لجاذبية هذه القصة المؤلمة، تعاطفه مع الرجل المنكوب كان واضح النوايا، استمع بإنصات شديد إلى تفاصيل البدايات الصعبة التي شكّلت نسيج حياته، تلك اللحظات التي اختبرت إرادته في مواجهة العسر والحرمان، وأسهمت في تشكيل هذه النسخة المظلومة منه، التي أدّت في النهاية إلى قتله لأخيه.


[ضحية المجتمع]


"في ساحة القدر وبين ثنايا الزمن قد رقدت حكاية رجل، أرادت الأقدار أن تنسج له خيوطًا متشابكة من التجارب والصراعات، وبينما تنمطر الأماني على الكثيرين، كان يتأرجح بين مآسي الحياة وبين طموحه العارم، وجدت نفسي أمام رجل تغلغلت الأقدار في وجدانه؛ لتحمل على عاتقه انكسار ملحوظ، وآمال تتلاشى وسط زوايا الألم، كان يومًا حالِكًا، لم تنبس الشمس بأشعتها فيه، بدأ الرجل حديثه بنبرة هادئة، لكن في عينيه ترجمةٌ لا يمكنني تجاوزها، كان هناك حزن في تلك العيون حمل في طياته تفاصيلًا قاسية جعلت هذا الرجل يفقد الضحكة من ملامح وجهه، منذ الصغر وجد هذا الرجل نفسه يحمل وطأة التعليم الضعيف والفرص المحدودة، تمثّلت طفولته بجدران مدرسة تفتقر للإمكانيات، حيث لم يتعلم سوى الأساسيات، وعقله مشعًا برغبة جامحة في التعلم والتقدم، بجبروت وإصرار على النجاح، وجد هذا الرجل نفسه يواجه واقعًا صعبًا من الفساد والواسطة، كان يشهد تفشّي جذور الفساد في كل زاوية من زوايا حياته، ويعاني من الظلم الذي ينخر جسد المجتمع، تواجهه طرق مسدودة وبوابات ضيقة، حتى وجد نفسه ينخرط في رحلة طويلة من العمل الشاق والتضحيات المتواصلة، هو رجل وقع في غرام الصّعاب، في عالم مليء بالقرارات والأفعال التي تحمل في طياتها تأثيرات عميقة، اتخذ خطوة أثّرت على حياته وحياة من حوله بشكل غير قابل للعكس، كان هذا الرجل الذي سنحتفظ باسمه لأسباب شخصية، يعيش حياة معقدة مليئة بالضغوط والتحديات، بينما كان يجابه صعوباته الشخصية، حتى جاء ذلك اليوم الأليم، انقلبت حياته رأسًا على عقب بعد ذلك اليوم، تغيرت ملامح حياته بسبب قرار غير مدروس، فتحول من أخّ محب إلى قاتل مذنب، يروي الرجل تلك الرواية القاتمة والتحول الذي خاضه بكل صدق وألم، تصاعدت الخلافات بينه وبين أخيه بشكل متسارع، وبين مأزق وآخر، وبين عائق وآخر، بين عراك دائم بين وزوجته وزوجة أخيه ويجب التنويه أنهما أختيْن، أخيه تزوج الأجمل منهما وترك الأخرى المصابة بالبهاق لأخيه، وكان هذا أمر أبيه حتى لا يتحمل مهريْن في آن واحد، فكانت هذه الصفقة بداية توغُّل الشيطان إلى عقله، وبعد سنين تغلّبت عليه عُقد الحياة، لم يكن هناك مساحة للحوار أو الصلح، في لحظة غضب لا تحتمل التفسير ولا التفصيل، تحولت مشاعر الألفة والرغبة إلى الكره والحقد، وفي حادث مأساوي وقع ما لا يُحمد عقباه، سوّلت له نفسه قتل أخيه فأطاعها وقتله، بعد محاكمة عادلة تك الحكم عليه بالإعدام وبدأت حياته تنهار ببطء أمام عينيه، غلبته الندوب النفسية وتلاشت معها السعادة والسلام، كانت لحظة الندم تراقبه من بعيد، وهو يتساءل عن كيفية وصوله إلى هذه النقطة المظلمة في حياته، وبينما كانت الأيام تمضي به في زنزانته طلب قدوم صحفي ليشاركه تفاصيل حياته المؤلمة، وكيف تآزرت الظروف السلبية لتدفعه إلى الجريمة، شعر الرجل بأنه قد حان الوقت للمصالحة مع ماضيه ومع أخطائه، إن هذه القصة ليست مجرد قصة جريمة، بل هي قصة تحذيرية عن قوة الظروف والقرارات السريعة والمؤثرة في تغيير حياة البشر، تذكير بأهمية الحوار والتفاهم وبناء الععلاقات الصحيحة، وعلى الرغم من ألم الماضي، فإن الرجل يقف اليوم معترفًا بأخطائه، مواجهًا اللحظات المصيرية بصدر رحب، تحولت محادثته إلى محطات تأمل عميقة، حول الأخطاء وحول التغيير، أبدى ندمه واعترافه بمسؤوليته، وأشار إلى أنه لن يمكنه أبدًا التراجع عن تلك الخطوة الخاطئة التي غيرت حياته، ويدعوا الجميع إلى عدم تكرار هذا الخطأ، أنه مهما كانت الضغوطات والصّعاب والأزمات التي نواجهها، علينا دائمًا اتخاذ القرارات الصائبة والصحيحة التي تصُبُّ في صالح الجميع، وأن هذه القصة لهي تذكير ملحمي، بـأن الإنسان يمتلك القدرة على مواجهة تصرفاته السلبية، والعمل نحو التحول الإيجابي، وكذلك في قدرة الإنسان على تصحيح مساره حتى في أصعب اللحظات.


بعد أن أنهى العدد الأول من المقالات التي ستروي حياة ذلك الرجل، جلس الصحفيُّ ناصر في غرفته يتذكر ذلك الطلب الأخير من رجل على مشارف الموت، لا يدري ماذا يفعل، وهل عليه استشارة أحدٍ ما في ذلك الأمر؟

 أم عليه فقط فعل ما يمليه عليه قلبه؟

 في النهاية قرر الانصياع لما تميل إليه نفسه، فتح حقيبته وتناول منها ورقة تحوي رسالة إلى زوجة ذلك الرجل، يطلب منها أن تسامحه على ما فعله وأن تغفر له، غادر منزله متجهًا إلى العنوان الذي أملاه عليه ذاك الرجل، وفي الطريق تذكر ما يجب عليه فعله، يجب أن يتسلّل إلى غرفة النوم ويضع تلك الورقة أسفل الوسادة، راودته بعض الشكوك حول ما هو مقبل على فعله.


وصل أخيرًا إلى العنوان، استجمع شهادته وصعد الدرج وصولًا إلى الشقة المقصودة، وكما هو مخطط له سيدخل إلى المنزل على أنه صحفي يريد أن يكتب عن قصة حياة زوجها، وسيطلب منها أن يكون اللقاء الصحفي والفيديو المصوّر داخل غرفة النوم التي كانت تجمعهم، وبينما هم في الداخل سيقوم بوضع الرسالة أسفل الوِسادة دون أن تدري زوجته، وقد جرت الأمور كما خطًط لها، وما إن بدأت السيدة في الحديث عن زوجها حتى صدر صوت غريب من الكاميرا يُبيّن أنها قد تعطلت، طلب منها تأجيل الحديث للغد حتى يصلح الكاميرا، فوافقت ثم غادر على الفور.

"بعد عشرة أيام"

استيقظ الصحفي ناصر في الثانية صباحًا على صوت خطوات قريبة من سريره، فتح عينيه فإذا بشخص ما يجلس على إحدى المقاعد في زاوية الغرفة، الظلامُ حالِك ولا يستطيع رؤية ملامحه حتى، وما إن تكلّم ذلك الغريب حتى شهِق من هول الصدمة، صاحب ذلك الصوت هو يعرفه جيدًا، وليست هذه المعضلة، لكن صاحب هذا الصوت من المفترض أنه قد مات منذ أسبوع، أضاء الغرفة في خوف غريب وجسده يرتعش، لا يدري أهو يحلم أم أن هذه حقيقة؟ سرعان ما تبيّن أنها حقيقة، عندما بدأ ذلك الرجل في الكلام، وما أدراك ما حجم الصدمة التي يتلقاها ذاك الصحفي بين كل كلمة وأخرى.


- ذاك العنوان الذي أرسلتك إليه كان عنوان منزل أخي، وتلك كانت زوجته، أما عن تلك الرسالة التي سلّمتها بكلتا يديك، فقد كانت دليل دامغ على براءتي، ودليلٌ دامغٌ أيضًا على انتحار أخي، شكرًا لك فلولاك لما كنت على قيد الحياة الآن، بالطبع هناك تفاصيل أخرى لا تعلمها، لكن ها أنا هنا أُعلِمك بالأهم، قبل أن آتي إليك قمت بقتل زوجتي، تلك العاهرة التي كانت دائمًا ما تقارن بيني وبين أخي في كل شيء، وبعد انتهاء عدة زوجة أخي سأتزوجها، أعلم أنك نادمٌ الآن أشد الندم على ما فعلته، لكن في كل حال أنت لست مذنبٌ في شيء كل هذا كان من تخطيطي أنا، لو كنت تركت زوجة أخي تتكلم عن زوجها لكنت عرفت هويتها، لهذا طلبت منك المغادرة فور وضعك الرسالة مكانها، لا أريد منك أن تحزن ولا أن تشعر بالندم، فأنا من يحمل دم أخي وزوجتي بين أصابعه ولست أنت، لن أنسى ما فعلته لي أبدًا.

الوداع يا صديقي.

تمت.

كتب: محمد أيمن

إقرأ أيضًا تساقطْ ماء العينِ من الجفن

1 تعليقات

  1. الله ينور بسم الله ماشاء الله حاجة جميلة جدا و ممتعة جدا ♥️

    ردحذف
أحدث أقدم