"الكتابة هي رحلة داخل الذات والعالم، حيث يتحول كل حرف إلى نافذة جديدة تفتح على أفكار وآفاق لم تكشف من قبل. اليوم، في هذا الحوار، نستضيف كاتباً مبدعاً تألق في عالم الأدب، للغوص معًا في أسرار الكتابة ونعرف كيف ينسج خيوط إبداعه. نريد أن نكتشف كيف يرى الكاتب العملية الإبداعية، مصادر إلهامه، والتحديات التي يواجهها. سنتناول كل ما يتعلق بالكتابة، من البداية وحتى النهاية، لنقدم للقارئ نظرة شاملة وعميقة عن عالم الكتابة من خلال عين الكاتب الكبير محمد عبد الحميد.
لنبدأ بالتعرف على بداياتك، هل يمكنك أن تخبرنا قليلاً عن نفسك؟
. في البداية، أنا الكاتب محمد عبد الحميد، من مواليد ثمانينيات القرن الماضي، وحصلت على بكالوريوس كليتي التجارة والإعلام من جامعة القاهرة، وقد دخلت مجال الكتابة بالصدفة البحتة. فقد كانت ميولي الدراسية عملية في الوقت المبكر من حياتي، ولم تكن لدي أي اهتمامات أدبية على الإطلاق. فطالما تمنيت أن أكون عالمًا في يوم من الأيام، لكن فضولي كان يدفعني دائمًا لقراءة كل ما يصادفني، سواء في مجالات العلوم أو الأدب، ومن هنا نشأت موهبتي للكتابة. وقد كانت الكتابة بالنسبة لي مجرد هواية، أمارسها فقط للتخفيف من عناء المذاكرة اليومية. ومع مرور الوقت، وبفضل القراءة المستمرة، بدأت ميولي تتغير تدريجيًا وازدهرت أحلامي لأصبح كاتبًا.
ما الذي دفعك إلى دخول عالم الكتابة؟ وهل كانت الكتابة جزءًا من حياتك منذ الصغر أم أن الأمر تطور مع مرور الوقت؟
. بالطبع، كانت القراءة هي العامل الأساسي الذي دفعني لدخول عالم الكتابة. أما الكتابة نفسها، فقد بدأت كموهبة منذ الصغر، لكنها لم ترتقِ إلى كيان حقيقي إلا من خلال القراءة المستمرة والعميقة. وبفضل هذه القراءات، تطورت موهبتي شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت كاتبًا له العديد من الإصدارات.
هل كان لديك نموذج أو قدوة من الكتاب الذين ألهموك في بداية مشوارك؟ وكيف أثروا في أسلوبك الكتابي؟
. في البداية، كان الكاتب الكبير أنيس منصور هو الدافع الذي شجعني على الكتابة والتجرؤ على دخول هذا المجال. لكنني بعده انغمست في عالم الكتب، وتعرفت على كتابات العديد من الأدباء الذين ألهموني وأثروا في أسلوبي الأدبي، مثل عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين. ولا يمكنني إغفال دور كاتب نوبل، نجيب محفوظ، في صقل موهبتي.
هناك أيضًا أسماء لامعة أخرى كالأستاذ إبراهيم عيسى، والكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين، وعلاء الأسواني، وعصام يوسف، وخيري شلبي، ويوسف إدريس، وعزت السعدني، والدكتور أحمد عكاشة، والدكتور يوسف زيدان، ومحمد الغزالي، وهيثم دبور، ووليد فكري. ومن الكتابات النسائية، أخص بالذكر الدكتورة رضوى عاشور، والأستاذة أحلام مستغانمي، والكاتبة خولة حمدي، مع كامل تقديري واحترامي لكل هؤلاء الكتّاب. فأنا أتأثر بأسلوب كل كاتب أقرأ له.
كيف تختار موضوعات أعمالك؟ وهل هناك موضوع معين تفضل الكتابة عنه بشكل مستمر؟
. يجب أن يكون لكل كاتب مشروع فكري يتجلى في كتاباته، حتى وإن لم يكن يظهر ذلك بشكل صريح. فأنا أحب الكتابة بشكل عام، وفي أي شكل كان، وكل ما أتمناه هو إصلاح العقل الجمعي للمجتمع في مجالات الدين، والسياسة، والعلوم الاجتماعية، والزواج، والحب. وأؤمن بأهمية الاهتمام بالثقافة والعلم، ودعم العلماء، وتعزيز القراءة المستمرة، مع الابتعاد عن الملهيات التي تسقط المجتمع في هاوية التفاهة. هذا ما يمنح أي نوع من الكتابة قيمة حقيقية.
أذكر لنا إنجازاتك التي نشرتها سابقًا؟
. لقد بدأت كتابة المقالات منذ عام 2013 في جريدتي "المقال" و"الوفد"، وتوالت بعد ذلك مشاركاتي في العديد من الجرائد الإلكترونية. ومنذ عام 2020، واظبت على نشر الكتب، حيث أصدرت كتابي "عودة المتأسلمون" بجزئيه الأول والثاني، ومجموعتين قصصيتين بعنوان "مواقف في الحب" و"حب بعد غربة"، والأخيرة صدرت هذا العام مع دار طريق العلا للنشر والتوزيع. كما أنني كتبت ثلاث روايات هي "آخر 18 يوم"، و"الحب في أيام فاتت"، و"يوميات سقراط"، بالإضافة إلى كتابين آخرين، أحدهما في الأدب الساخر بعنوان "الرأس وهز الوسط"، والآخر في السير الذاتية بعنوان "مبدعون قهروا الإعاقة"، والذي نشر هذا العام أيضًا عن دار ريشة للنشر والتوزيع.
حدثنا عن عملك القادم؟
. لقد اعتدت على نشر كتابين في كل عام، وأعتقد أن هذا العام سيكون لدي عدد أكبر من ذلك، فلدي العديد من المشاريع القائمة والتي بدأت فيها بالفعل، وآمل أن تُنشر وتخرج إلى النور، وأن أجد دار النشر المناسبة لأعمالي. دعواتكم لي بالتوفيق.
هل تشعر بأنك تعبر عن نفسك فقط من خلال الكتابة، أم أن هناك أفكارًا أو رسائل تحاول إيصالها للعالم من خلال أعمالك الأدبية؟
. بالتأكيد، فالكتابة هي رسالة، وليس هدفها مجرد الإمتاع، سواء للكاتب أو القارئ. وإذا كانت القراءة للمتعة فقط، فبذلك سوف تصبح القراءة مضيعة للوقت. ورغم ذلك، من المهم أن تكون القراءة ممتعة، وإلا سيتجنب القارئ شراء الكتب لأنها سوف تذكره بالكتب المدرسية التي قرأها معظمنا دون أن يستفيد منها شيئًا سوى الفائدة المؤقتة التي تنتهي بعد أداء الامتحانات. لذا، يجب على الكاتب أن يبذل جهدًا مضاعفًا في توصيل الرسالة الهامة والمُؤثرة للقارئ، دون أن يشعر أن هذه الرسالة مجرد درس قاسٍ، بل عليه أن يقدم له المتعة ويغنيه بالرسالة دون أن يُشعره بأي ملل.
كيف ترى علاقة الكاتب بالقراء؟ هل تكتب بما يتوافق مع توقعات الجمهور، أم أن الكتابة هي انعكاس لروحك الداخلية فقط؟
. أحييك على هذا السؤال، فهو يعكس جوهر العلاقة العميقة بين الكاتب وقرائه. هذه العلاقة بالغة الأهمية، فالكتّاب الذين نمى اليهم معنى هذه العلاقة استطاعوا تحقيق نجاحات ملحوظة في مسيرتهم المهنية. إن التواصل بين الكاتب والقارئ يعد لب العمل الثقافي؛ فعلى الكاتب أن يتخلى عن أي تعالٍ، ويتقرب إلى قرائه كأصدقاء مقربين، ويتفاعل معهم بانتظام ليعرف انطباعاتهم حول كتاباته ويتفهم ذائقتهم الأدبية المتغيرة باستمرار. وعليه أن يضع رسالته المقدسة في إطار ينسجم مع ميولهم الأدبية.
هل يمكن للكتابة أن تكون علاجًا نفسيًا بالنسبة لك؟ كيف تساعدك الكتابة على مواجهة تحدياتك الشخصية أو العاطفية؟
. أعتقد ذلك بشدة. فأنا شخص قليل الكلام، والكتابة بالنسبة لي هي وسيلة للتنفيس عن مشاعري الداخلية. أما بالنسبة للشخص الخجول الذي يجد صعوبة في البوح بمكنوناته العاطفية، تصبح الكتابة الوسيلة المثلى للتعبير عن ذاته.
ما هي اللحظات أو المواقف التي تشعر فيها أن الإبداع يصل إلى ذروته لديك؟ هل لديك طرق معينة لتحفيز نفسك على الكتابة في الأوقات الصعبة؟
. أرى أن الكاتب ينبغي ألا يكون رهين موقف أو وقت أو مكان معين، بل يجب أن يكتب تحت أي ظرف. فالكاتب الحقيقي يكتب في كل الأوقات، ولا ينتظر لحظة مثالية. هل سأتوقف عن الكتابة إذا لم تتوفر تلك الظروف؟ بالتأكيد لا، سأكتب مهما كانت الأحوال.
كيف ترى التطور التكنولوجي في عالم الكتابة، مثل النشر الإلكتروني والذكاء الاصطناعي؟ هل تعتقد أنه يؤثر على الأدب التقليدي؟
. بالعكس، أرى أن التكنولوجيا مفيدة للغاية في مجال الثقافة. فأنا أكتب من خلال خاصية الكتابة الصوتية، ولولاها لما استطعت الكتابة بالسرعة المطلوبة. كما أنني أتمكن من القراءة والاطلاع على ملايين الكتب المتاحة على الإنترنت، مما يسهل عملية البحث عن المعلومات الموثوقة. والكتابة على الكمبيوتر تتفوق على الكتابة باليد من حيث السرعة وتسهيل مراجعة الأخطاء اللغوية والإملائية. وإذا تم توظيف الذكاء الاصطناعي لخدمة الكتابة دون أن يتغول على عمل الكاتب، فإنه سيكون مفيدًا ويثري التجربة الثقافية.
كيف تتعامل مع النقد؟ هل يعتبر مصدرًا للتحفيز والتطوير أم أنك تجد صعوبة في تقبل الآراء المختلفة حول أعمالك؟
. قديمًا، كنت أشعر بالانزعاج من كثرة النقد، لكن مع مرور الوقت، وفهمي العميق لتجربتي، أدركت أن هؤلاء النقاد كانوا محقين، وأن ملاحظاتهم دفعتني لتطوير نفسي. لذا، تعلمت أن النقد، بغض النظر عن طبيعته، هو مفيد للكاتب، سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا. فالكاتب وحده هو الذي يستطيع التمييز بين أنواع النقد الموجه إليه، وعليه أن يستفيد من كل ما ينمي موهبته.
هل هناك أنواع معينة من الكتابة أو الأدب تتمنى أن تتناولها في المستقبل، لكن لم تتح لك الفرصة بعد؟
. نعم، أطمح إلى استكشاف مجالات أدب الرعب وأدب القصص البوليسية، والتي لم أقترب منها من قبل، إذ أنها ليست ضمن ذائقتي الأدبية الحالية. وإذا ما سنحت لي الفرصة لتناول هذين النوعين، فسأفعل ذلك بأسلوبي الخاص، مما سيضفي قيمة مميزة على كتاباتي، بخلاف ما يقدمه معظم الكتاب الذين يتناولون هذه الألوان الأدبية بهدف الإمتاع فقط.
هل هناك مشروع أدبي على وجه التحديد كنت تعمل عليه لفترة طويلة وتعتبره أقرب أعمالك إلى قلبك؟ ولماذا؟
. نعم، رواية "الحب في أيام فاتت" كانت مشروعًا مرهقًا للغاية، إذ تطلبت مني عملية البحث عن المعلومات الدقيقة جهدًا كبيرًا. كنت أستقصي شكل العلاقات الاجتماعية في الفترة ما بين خمسينات القرن الماضي وأوائل الألفية الثالثة. بينما يسهل الحصول على المعلومات السياسية في تلك الفترات، ولكن كانت المعلومات الاجتماعية تمثل تحديًا حقيقيًا لقدرتي في البحث.
ما هي أهم التحديات التي تواجهها ككاتب في العصر الحالي؟ هل تعتبر أن وجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي له تأثير على الكتابة بشكل عام؟
. تعد قلة أعداد القراء من أبرز التحديات التي تواجه صُنّاع الثقافة في مصر، وربما في الوطن العربي بأسره. من الغريب أن مجتمعًا يغلب عليه المسلمون ولا يطبقون أولى أوامر الله للمسلمين والتي جاءت في القرآن الكريم، وهي القراءة. ومع الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، باتت الناس تعزف عن شراء الكتب، ليصبح القليل منهم فقط حريصين على اقتنائها. علاوة على ذلك، يواجه الكاتب تحديًا آخر يتمثل في التسويق، مما يجعله مشتتًا بين الكتابة وتنمية موهبته والعمل على تسويق أعماله القادمة، وهو ما يتطلب جهدًا ووقتًا وموارد مالية كبيرة. وللأسف، لا يوجد كيان قوي يقوم بهذا العمل مجانًا لصالح الكاتب، كما أن العائد الذي يحصل عليه الكاتب غالبًا ما يكون غير كافٍ لتغطية تكاليف التسويق، مما يستدعي منه استخدام ماله الخاص، وحل هذه المعضلة لا يأتي إلا بالصدفة.
هل تعتقد أن الكتابة تحتاج إلى الكثير من المعاناة والصراع الداخلي لخلق شيء مميز، أم أن الإبداع يمكن أن يكون نتيجة لحظات عفوية؟
. لا توجد قواعد ثابتة في الكتابة والفن عمومًا، لكنني أعتقد أن الكاتب يحتاج إلى المرور بتجارب عديدة لرؤية نماذج متنوعة من البشر، حتى تكتسب كتاباته لمسة قريبة من عالمه المحيط. ومع ذلك، قد يحدث العكس؛ فالكاتبة الفذة هيلين كيلر، على سبيل المثال، لم تكن لديها أي وسيلة للتواصل مع البشر، إذ كانت صماء، وبكماء، وعمياء، والشخص الوحيد الذي كانت تتواصل معه هو معلمتها الوفية آن سوليفان. ورغم ذلك، كانت كاتبة من الطراز الفريد.
ما هي الرسالة التي تأمل أن تتركها من خلال أعمالك الأدبية؟ وكيف تريد أن يتذكرك القراء بعد سنوات من الآن؟
. رسالتي، هي تعزيز الوعي في المجتمع، سواء كان وعيًا دينيًا، أو سياسيًا، أو اجتماعيًا. إن هذه الأمور جميعها تسهم في ارتقاء المواطن المصري، الذي يُعد نواة هذا البلد. وبذلك، أكون قد قدمت خدمة للوطن بطريقة غير مباشرة.
ما رأيك في المجلة؟
. إنكم تقومون بعمل ممتاز حقًا؛ فأنتم تسلطون الضوء على النجوم الحقيقية في المجتمع، الذين يعملون من أجل نشر الثقافة. أتمنى لكم دوام التوفيق والاستمرار في هذا المسعى النبيل، الحوار كان ممتعًا وشيقًا.
"في النهاية، نكون قد استعرضنا بعضًا من أبعاد الكتابة الإبداعية وتعرفنا على رؤية الكاتب العميقة والمميزة لهذه العملية الرائعة. كانت هذه الجلسة بمثابة رحلة مليئة بالإلهام والتأمل، حيث أضاء الكاتب أمامنا أفقًا جديدًا لفهم الأدب والتعامل مع الإبداع. نُشكر الكاتب المبدع على وقته الثمين ومشاركته أفكاره، ونتمنى أن تكون هذه الكلمات مصدر إلهام لجميع المبدعين الشغوفين بالكتابة. وفي النهاية، نعلم جميعًا أن الكتابة هي فن لا يتوقف، وأن كل كلمة هي خطوة نحو عالم جديد لا نهاية له."